الخميس، 28 يوليو 2016

قصة قصيرة مترجمة / حسام ابو سعدة

رياح الشمال.
* من كتابى "12 قصة مهاجرة" / دار الكتاب العربى.
* مترجم عن "جابريال جارثيا ماركيز".

    لم أره إلا مرة واحدة فى "بوكاشيو" - الملهى الليلى الحديث فى "برشلونه" - كان ذلك فى الثانية صباحاً، أى قُبيل وفاته الرهيبة ببضعة ساعات فقط. كان محاطاً بمجموعة من الشباب السويديين، يصعب التمييز بينهم لتشابههم، فى غاية الجمال، شعورهم طويلة مذهبة، يصرون على إجباره على إصطحابهم إلى مدينة "كاداكيه" ليتموا سهرتهم هناك، لكنه رفض برعب.
   لم يكن قد أتم العشرين  من عمره، بشرته زيتونية شاحبة مثل الكاريبيين الذين إعتادوا السير فى الظلمات كأمهاتهم، نظراته كنظرات الرجل العربى  تدير رأس أية فتاة سويدية. رفعوه إلى طاولة الشراب مثل الدمية، غنوا له الأغانى الحديثة و هم يصفقون ليجبروه على السفر. حاول المسكين أن يشرح لهم فى فزع، تدخل أحدهم صارخاً: إتركوه فى سلام. لكن تحداه الآخر  بضحكة مدوية:
ـــ إنه ملك لنا، وجدناه فى صندوق القمامة.
      إقشعر بدنى لأننى أعرف جيداً الدوافع الجليلة التى تجعله  يأبى السفر... لقد كان يعيش حتى نهاية الصيف الماضى فى "كاداكيه"، يكسب قوت يومه من الغناء فى مطعم شعبى مشهور، و ظل يغنى إلى أن أصابته رياح الشمال... هرب فى اليوم التالى و أقسم بعدم العودة. فهو يعرف تماماً أنه لو عاد لن يجد شيئاً ينتظره سوى الموت، هذا هو إعتقاد الكاريبيين الذى لا يفهمه سكان الشمال العقلانيون  الذين لا لهم سوى النبيذ الحاد.... لكنى فهمته كإنسان.
*****
    "كاداكيه" أجمل بلاد "كوستابرافا" و الأكثر أمناً، تطل على بحر بلا قرار، شارع الكورنيش ضيق متعرج بحيث يصعب على أمهر السائقين تجاوز سرعة الخمسين كيلومترا فى الساعة. البيوت منخفضة بيضاء مضى عليها قرون طويلة، لها الطابع التقليدى لكفور صيادى البحر المتوسط، بينما المبانى الحديثة من تصميم مهندسين معماريين مشهورين لكنهم يحترومون الطابع الأصيل للبلد.
فى الصيف، عندما ترتفع الحرارة لأنها قادمة من القارة الإفريقية المقابلة، تتحول "كاداكيه" إلى جنة مثل حدائق بابل، فيأتى السائحون من جميع أنحاء أوروبا، يمكثون ثلاثة أشهر يستمتعون بنعيم الجنة مع الأهالى و الغرباء الذين لهم حظ شراء منزل بسعر جيد ـ عندما كان ذلك ممكناً- فى الربيع و الخريف تكون المدينة أكثر جمالاً و روعة بينما يحلم الأهالى فى رعب برياح الشمال. الرياح  الآتيه من الأرض القاسية اللزجة، يقول السكان الأصليون و الكتاب الخياليون أنها تحمل جراثيم الجنون...
    كنت أحد الزوار الدائمين للمدينة لمدة خمسة عشرة عاماً، حتى إصطدمت برياح الشمال، بل تنبأت  بها قبل قدومها.. حدث ذلك يوم الأحد، فى وقت القيلولة، شعرت بلا سبب واضح  بأن شيئا ما سيحدث، شعرت بالكآبة و الحزن، أصبح لدى إنطباع بأن أطفالى الذين لم يتموا العاشرة من عمرهم يراقبوننى بنظرات عدوانية. بعد قليل أتى البواب و معه الأدوات و الحبال،  أحكم غلق النوافذ  و الأبواب، لم يكن وهنى يسبب له  أية مفاجأة ثم قال:
ـ إنها رياح الشمال، ستهب علينا بعد ساعة.
    كان البواب بحاراً قديماً طاعناً فى السن، يحتفظ من مهنته القديمة بمعطف واق و غليون، جلده ملتهب بالأملاح من كل بحار العالم. يمضى وقت فراغه فى لعب الكرة فى الميدان مع أصدقاء أمثاله يشبهون المحاربون القدامى المهزومين فى حروب كثيرة، يتناول فاتح الشهية مع السائحين فى المقاهى على الشاطئ، يجيد التفاهم  بكل لغات العالم، يفتخر بمعرفة كل الموانئ بينما لا يعرف أية مدينة داخل القارات، و ذلك لأنه كما يقول: لا يثق بأىة وسيلة مواصلات سوى البحر.
فى الأعوام الأخيرة ظهرت عليه أعراض الشيخوخة، فإعتكف داخل البيت يقضى معظم وقته وحيداًــ عاش طوال حياته ــ يعد غذائه على موقد صغير، لكن هذا الموقد  الحقير كافياً لأن يدعونا من وقت لآخر على أشهى المأكولات التى لا توجد إلا على موائد الملوك. سخاؤه عفوى، حبه عنيف، من أكثر الناس إستعداداً لتقديم الخدمات. قليل الكلام لكنه مباشر و صريح. منذ الصباح الباكر يهتم بالسكان طابق بعد طابق، و عندما لا يجد  شيئاً يفعله يمضى الساعات فى كتابة مذكرات إحتجاج على نتائج المباريات.. لم تُقبل هذه المذكرات أبداً...
فى هذا اليوم، بينما كان يُحكم غلق الأبواب و النوافذ راح يحدثنا عن رياح الشمال كإمرأه عجوز تولول، ذُهلت من أن رجل البحر يُرجع هذا الكم الضخم من الكوارث لرياح أرضية، شعرت من الحديث أن العام لا ينقسم فى حساباته إلى أيام و شهور، بل المرات التى تعصف فيها رياح الشمال:
ـ إنها رياح قديمة جداً... فى العام الماضى، فى اليوم الثالث بعد رياح الشمال الثانية أصابتنى نوبة مغص شديدة.
هذا يعنى حسب تفسيره أننا نشيخ عدة سنوات بعد رياح الشمال.
جعلتنا هذه الوساوس نتعجل العاصفة، فأصبحنا ننتظر زيارة حتمية لساحرة ماكرة... لم يطل إنتظارنا، فما كاد يخرج البواب حتى سمعنا صفيراً يقترب رويداً رويداً، يزداد حدة و كثافة ثم إنتهى بفرقعة هزت الأرض ... إذن لقد أتت العاصفة.
فى البداية هبت رياح متباعدة، ثم تقاربت أكثر فأكثر، ثم رياح متصلة بدون لحظة سكون واحدة بكثافة و قوة غير طبيعية. كان منزلنا يطل على الجبل، و ربما يرجع ذلك إلى طباع الكاريبيين الذين يحبون البحر عندما لا يرونه، فضربتنا الرياح القادمة بقوة و هددت بتحطيم النوافذ... أكثر ما سحرنى  فى ذلك الوقت هو أن الجو كان مشرقاً إشرقاً غامضاً، الشمس ذهبية و السماء صافية، فقررت الخروج لمشاهدة البحر مع أطفالى.. لقد نضجوا بالقدر الكافى أثناء إضطرابات الأرض فى المكسيك و زوابع البحر الكاريبى، و الهواء مهما بلغت شدته لن يخيفهم...
مررنا من أمام كوخ البواب، لاحظناه يجلس بلا حراك و أمامه طبق من السجق بالخضروات، يتأمل الهواء من النوافذ. لم يلحظنا و نحن نخرج من أمامه. سرنا نحتمى بالمنازل لكن عندما وصلنا إلى آخر الشارع المقفر إضطررنا إلى التشبت بأحد الأركان حتى لاتحملنا الرياح العنيفة ، تعجبنا من البحر الهادئ الشفاف وسط العاصفة.
بعد قليل أتى البواب و معه أصدقائه لينقذوننا، فأدركنا أن الشئ الوحيد المقبول هو أن نمكث فى المنزل طويلاً، و لا أحد يعلم الا الله إلى متى ستطول إقامتنا...
بعد يومين أصبحنا نشعر بأن هذه الرياح العاتية ليست ظاهرة طبيعية، بل إنها هجوم من شخص ما دفع بها إلينا نحن فقط.
البواب يأتى  لرؤيتنا عدة مرات أثناء النهار ليطمئن على حالتنا المعنوية، يحضر لنا الفاكهة و الحلويات للأطفال. فى يوم الثلاثاء أعد لنا هدية رائعة من المطبخ "الكاتالونى"، كان قد طهاها على مهل فى حجرته: أرنب بالقواقع البحرية. كانت لحظة سعادة عارمة وسط الرعب. الأربعاء كان أطول يوم فى حياتى، الشئ الوحيد الذى يحدث دئماً و أبداً هو صفير الرياح، لكن كان هناك شئ يشبه الظلام الذى يسبق سطوع الشمس. فى أثناء الليل إستيقظنا جمعياً فى لحظة واحدة منزعجين من السكون الذى يشبه سكون الموت. من ناحية الجبل لم يكن هناك ورقة شجر واحدة لاترتجف. خرجنا قبل أن يضئ البواب كوخه، تأملنا  البحر الفوسفورى و السماء المزدانة بالنجوم المتلألئة. بالرغم  من أن عقارب الساعة لم تتجاوز الخامسة صباحاً إلا أنه كان هناك عدد كبير من السائحين الذين إنتهزوا فرصة السكون، فخرجوا يتأملون  الأشرعة تستعد للإبحار بعد سكون دام ثلاثة أيام.
فى أثناء العودة، كان فى الهواء فسفورية عجيبة مثل البحر، لاحظنا أن كوخ البواب مازال مظلماً، قلقت عليه فضربت الباب ضربتين،لا مجيب، فتحت الباب صرخ الأطفال فى رعب...!
البواب العجوز يرتدى بدلته البحرية المزدانة بالإشارات و النياشين مشنوقاً فى السقف، يتأرجح جسده بآخر هبة هواء من رياح الشمال...
شعرت بالحنين إلى الوطن، قررت ترك المدينة و ألا أعود إليها أبداً.. ألقيت نظرة أخيرة من النافذة المتربـة فرأيت السائحين يجتاحون الشوارع مرة أخرى، يسمعون الموسيقى من المقاتلين القدامى الذين لا يستطيعون إلا مجرد لمس الكرة فقط. رأيت بعض أصدقائنا يعودون إلى الحياة فى ربيع متألق برياح الشمال.
*****
لهذا، ففى هذا  الصباح الحزين فى "بوكاشيو" كنت أنا الوحيد الذى يعرف مأساة هذا الشاب الذى يرفض العودة إلى "كاداكيه"،لا شئ ينتظره سوى الموت... و مع ذلك كان من المستحيل أن أثنى السويديين عن قرارهم، أخذوه معهم بالقوة  و هم يدعون له بالشفاء من هذه الخرافات الإفريقية. حملوه فى عربة نقل و هم يصفقون حوله، أجبروه على السفر الطويل فى الساعة المتاخرة من الليل.
فى صباح اليوم التالى إستيقظت على جرس التليفون، من الطرف الآخر كان الصوت قلقاً:
ـ هل تذكر الشاب الذى أجبروه على الرحيل إلى "كاداكيه"؟ لقد إنتهز فرصة إنشغال السويديين و حاول الهرب منهم هناك، فسقط فى هوة عميقة...

* موعدنا الخميس القادم، إن شاء الله.
ترجمة: حسام ابو سعدة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق