الخميس، 4 أغسطس 2016

نثـــــــــر / الطيـّـار/ بقلمي/ حسام أبو سعدة .

الطيـّـار .

خرج زوجها إلى عمله بعد آذان الفجر بقليل. تقلبت "سعدية" فى الفراش بين النوم و اليقظة، عندما إكتشفت أنه يجب عليها مواجهة معاناة كل يوم هبت جالسة، إنتبهت، فتحت عينيها عن آخرهما و قد تجعدت ملامح وجهها رغم أنها مازالت فى ريعان الشباب.
بعد أن غسلت وجهها بسرعة وقفت برهة أمام حجرة ولديها. الضؤ الخافت ينساب من النافذة الصغيرة على الحجرة الضيقة. الولدان يغطان فى نوم عميق. الأصغر بجوار الحائط أسفل النافذة، يلف ذراعه الصغيرة حول رقبة أخيه الأكبر الذى ينام من ناحية الخارج. تأملت ساق إبنها البكر المكسورة فشعرت بوغزة فى قلبها. الآن يراودها الشك فى أنها السبب فى كسر ساقه. لكنها لم تفعل شئ غير عادى، فعلت مثلما تفعل كل الأمهات.
كانت ترسله لشراء الخبز كل صباح، هكذا تفعل كل الأمهات، هكذا كانت أمها تفعل معها. فى الأونة الأخيرة، بدأ الولد يعود إليها بالخبز ممزق الثياب و هو يخبرها بالمشاجرة التى حدثت. تنهال عليه فى اللوم و العتاب. لا يتشاجر إلا المجرمين. يجب إحترام الكبير و مساعدة الصغير. هكذا علمتها أمها. فيصمت الصغير مطأطئ الرأس. ثم يعود إليها صباح اليوم التالى حاملاً الخبز و الدم ينزف من يديه. تضربه، تلومه و هى تصرخ:
-
لا أحب أن يكون إبنى مجرماً. رغم الفقر لا يوجد أحد فى عائلتنا منحرفاً. لن أسمح لك بذلك أبداً.
ثم تجلس تبكى بمفردها فى حجرتها و هى تبتلع القلق بداخلها. تفعل مع ولديها كل ما يجب أن تفعله الأم من أجل مستقبل و راحة أولادها. لا تسمح له بالتغيب عن المدرسة أبداً مهما كانت الأسباب. تجاهد لكى تصنع منهما رجلين محترمين لهما مكان فى هذا المجتمع. تساعدهما فى الدراسة رغم تعليمها المتواضع، عندما تواجهها صعوبات الدراسة لا تيأس أبداً، بل تجاهد و تحاول فى صبر و جلد من أجل تحقيق الحلم. ترى فى أحلامها كل منهما قد صار رجلاً ناضجاً له بيت خاص به و زوجة جميلة وفية تعاونه، ترى كل منهما رجلاً مسؤولاً قادراً على مواجهة الحياة بجدية و حزم.
و أخيراً، عاد إليها حاملاً الخبز و هو يصرخ و يتلوى . جرت به إلى المستشفى الخيرى القريب. هناك إكتشفت أن ساقه قد كُسرت. قام الأطباء بعمل اللازم بتكاليف زهيدة، صاحب المستشفى رجل صالح يتعاون مع الفقراء برحمة و إنسانية لا حدود لهما.
حدث هذا منذ أسبوعين تقريباً. الولد الصغير لا يتعدى عمره الخمسة أعوام . هكذا أصبح عليها شراء الخبز بنفسها. لم تستطع الحصول على خبزها. الطوابير كثيرة و طويلة، تمتد لعدة أمتار كثيرة. أمام بوابة المخبز يتزاحمون، يتشاجرون، يتصارعون بالأيدى و الأقدام. علمت أنها أتت متأخرة جداً. البعض يأتى بعد صلاة الفجر مباشرة لكى يحصل على خبزه. فى هذه اللحظة أدركت مدى معاناة إبنها. كيف يستطيع إبنها البكر الذى لا يتعدى عمره التسعة أعوام مواجهة هذا البحر المتلاطم؟ إقشعر بدنها عندما إستشعرت قسوتها عليه.
فى اليوم التالى، خرجت قبل موعد عمل المخبز بساعتين. عندما لمحت المخبز من بعيد شعرت بالإرتياح، يبدو أنها ستكون الأولى فى الطابور فتحصل على خبزها بمجرد بدء العمل. لكن، ما أن إقتربت حتى رأت الناس يفترشون مداخل البيوت، أخبرها كل منهم بدوره، إكتشفت أنها السابعة عشر. جلست فى مدخل أحد البيوت مذهولة.
ماذا حدث ؟... منذ عشرين عاماً، عندما كانت أمها ترسلها لشراء الخبز كان للمخبز عينان، ينتج أنواع كثيـرة من الخبـز، الزبـون هـو الذى يحدد نوع الخبز الذى يريده و درجة تسويته. إذا لم يرق لها أى من هذه الأنواع تذهب إلى المتجر الذى فى نهاية الشارع. هذا المتجر متخصص فى بيع جميع أنواع الخبز و بأحجام مختلفة.
بدأ العمل فى المخبز فى السابعة صباحاً. إصطفت الطوابير الطويلة، لكن بوابة المخبز مازالت مغلقة. أتت عربة، إلتفت حول المخبز و بعد برهة إستدارت عائدة محملة بالخبز الفاخر. حمدت "سعدية" ربها ثم إستدارت إلى جارتها قائلة:
-
يبدو أن الخبز اليوم جيداً.
سألت جارتها فى ضيق:
-
إذا كان الخبز قد نضج فلماذا لا يبيعونه؟
رد رجلاً كان واقفاً فى طابور الرجال:
-
صاحب المخبز يذهب بهذا الخبز الفاخر إلى الأسواق الراقية ليبيعه بعشرة أضعاف الثمن.
شهقت "سعدية" ثم قالت:
-
هل تقصد أن الخبز الذى سنحصل عليه يختلف؟
أجاب الرجل وعلى شفتيه إبتسامة ساخرة من سذاجتها:
-
طبعاً.
بعد أن إعتصرها الزحام، إستطاعت الحصول على خبزها فى العاشرة صباحاً. خبزاً لا لون له و لا رائحة. بالرغم من ذلك جرت إلى البيت سعيدة بالكنز الثمين. أعدت طبق الفول بسرعة و وضعته أمام ولديها. عندما إكتشفت عدم وجود البيض أو الجبن لإرتفاع أسعار هذه الأشياء ضحكت فى ألم. تذكرت حديث والدها منذ عشرين عاماً. كان والدها يلعن الظروف و الأيام، يشكو من صعوبة الحياة بسبب الحرب. الحرب تسبب الغلاء و تجعل كل شئ نادراً، لم يكن يقصد الخبز طبعاً لأنه كان متوفراً. فى هذا الوقت كان قد مر على الحرب الأخيرة عشرة سنوات تقريباً. كانت تسمع الكبار يقولون أن الأحوال ستتحسن بالتدريج. الآن مضى على الحرب أكثر من ثلاثين عاماً. الآن أصبح المخبز آلياً. أين الخبز؟ أصبح فى ندرة الألماس. عليها مواصلة نفس المعاناة كل يوم للحصول على خبزها.
سمعت أزيز الطائرة يأتى من المطارالقريب. فجأة، إستيقظ إبنها الصغير، قفز بخفة يفتح النافذة و راح يرقب الطائرة فى إستمتاع و هى تقلع. ثم إلتفت إليها قائلاً:
-
عندما أكبر أريد أن أكون طياراً.
ضحكت رغماً عنها و ذهبت لتبديل ثيابها. المطار شئ مزعج، لكن هذا هو المسكن الوحيد المتاح لضيق ذات اليد. الجميع هنا يتأفف من أزيز الطائرات، لا يسعد بذلك سوى إبنها الصغير.
عندما أصبحت على وشك الخروج رأت إبنها الصغير بجوارها. يريد الخروج معها. نهرته، الزحام شديد، الصراع مرير. لكن الصغير أصر على الخروج معها. فحذرته ألا يبتعد عنها أبداً.
قبضت على يده بقوة و ذهبا يسيران معاً فى الأزقة و الطرقات، يقفزان على البرك و المستنقعات إلى أن وصلا إلى الطريق السريع حيث يوجد المخبز. السيارات تمر مسرعة لا تلوى على شئ. لاشك أن أصحاب السيارات من الأثرياء و المسؤولين لا يعلمون أن هناك أناس تعيش هنا. البيوت هنا لا تتكون إلا من طابق واحد أو طابقين، الكثير منها يختفى وراء النباتات البرية التى نمت فى التربة الطينية، كانت الأرض زراعية فى البداية ثم تحولت إلى بيوت عشوائية على أطراف المدينة. لا شك أن هؤلاء الأثرياء يعيشون فى عالم آخر يختلف تماماً.
بعد الإنتظار لمدة ساعتين بدأ العمل و إصطفت الطوابير الطويلة. ما أن فُتحت أبواب المخبز حتى هجم الجميع فى صراع و قتال من أجل الخبز الثمين.
كاد الصغير أن يُعتصر فى الزحام، وحوش عمالقة يحجبون عنه النور و الهواء. رائحة العرق كريهة بغيضة، الأقدام تتقاذفه فى وحشية، كاد أن يختنق، ترك جلباب أمه الذى كان يقبض عليه بقوة بيده الصغيرة و إنسل هارباً من هذا الفخ الذى وقع فيه. لم تشعر "سعدية" بذلك، كانت منهمكة بالصراع المرير من أجل الوصول إلى بوابة المخبز.
خرجت من هذا البحر المتلاطم بعد ساعة حاملة الخبز فى فرح و سعادة. إلتفتت تبحث عن إبنها فلم تجده. فى لهفتها، لم تلحظ الناس و هم يجرون حولها إلى الطريق السريع ليلتفوا حول أحد السيارات. سألت بعض المارة عن إبنها، إنهم جميعاً يعرفون بعضهم البعض جيداً. لم يجبها أحد. سألت:
-
هل من المعقول أن يكون قد عاد إلى البيت بمفرده؟
قالت جارتها:
-
ربما.
جرت إلى البيت فى لهفة و الناس يرقبونها فى ألم. البعض يمصمص شفتيه فى شفقة، البعض على وشـك البـكاء، لكن لم يجـرؤ أى منـهم على إخبـارها بالحقيقة. مرت طائرة أثناء الطابور، مد الصغير يديه و راح يجرى مقلداً الطائرة، فدهسته السيارة.
نًشرت قصة "الطيار" فى جريدة "عاجل" بتاريخ 20 أغسطس 2012 العدد 32.
*
موعدنا الخميس القادم، إن شاء الله.

حسام أبو سعدة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق