الخميس، 15 ديسمبر 2016

زهرة الصحراء 10... للكاتب / حسام أبو سعدة

زهرة الصحراء 10...
للكاتب / حسام أبو سعدة

 عاد إلى الصحراء وحيداً يتجه نحو الشرق أملاً فى الوصول إلى ضفاف النيل لينهل منه حتى يرتوى، بيد أن الصحراء بدت له كأنها لن تنتهى أبداً. تسرب اليأس إلى قلبه الملهوف و سيطر على كل كيانه.. كان فى الماضى يردد الحكمة الشهيرة: كلما اشتد الظلام كلما اقترب الفجر. لكن الحياة علمته أنه كلما اشتد الظلام كلما اشتدت وحشة الغربة، لن يبزغ الفجر أبداً، إنه ظلام أبدى.. يشعر كأنه يعيش ضريراً فى هذه الصحراء يتخبط فى الصخور و الجبال، يتعثر فى الرمال. كان يفخر بعقله الذى لا يُقهر، الإنسان الذكى يعرف طريقه جيداً، يعرف قدراته و يُحسن الاستفادة منها حتى لا يقع فريسة التيه.. يشعر بقلبه ميتاً رغم ما كان يتفاخر به من إحساسات و مشاعر نبيلة يحولها إلى ألحان عذبة و نغمات صافية بينما يتهم الناس بالغدر و الوحشة. 
فى ساعة العصر سقط مرهقاً يائساً باكياً، الجوع يمزق أحشاءه، العطش يمزق حلقه. تمدد على الأرض فى استسلام رغم لسعات حرارتها و خشونتها.  لم يعد يبحث عن كهف فى بطن الجبل أو جحر فى جوف الأرض.. لا فائدة من أى شىء، لا جدوى من البحث عن الأمل، لا جدوى إطلاقاً من إعمال العقل. الحامى هو الله. المكتوب مكتوب. أذكى العقول البشرية تعجز عن بلوغ الحكمة، فلماذا إرهاق العقل فيما لا يفيد أو ينفع؟ فلينعم العقل بهدوئه. و لينعم القلب بالسكينة و ليكن ما أراده الله. 
بعد أن غابت الشمس تجر وراءها أشعتها الحمراء خلف الأفق الذى يستحيل الوصول إليه، لم يكن هناك ظلام دامس كالمعتاد، كان القمر بدراً ساطعاً وسط نجوم تتلألأ. كان القمر فى الماضى رمزاً للعاطفة النبيلة لكنه بدا له اليوم أخطر من ذلك بكثير، نور يسطع فى الظلام، أمان للتائهين. إن الله لم يخلق هذا القمر إلا لهدايتى. 
من خلال استدارة القمر رأى وجه الشيخ الوفى مبتسماً. فى هذا اليوم كان يجلس على الأرض مسنداً ظهره إلى الحائط يتصنع الدهشة فى عينيه كمن يتحدث إلى طفل محاولاً إبهاره و إثارة فضوله. قال له إن الله عندما خلق النار أمر "جبريل" عليه السلام بالذهاب إليها ليرى ما أعده للكافرين الجاحدين. بعد أن رأى مدى هولها و بشاعتها عاد إلى ربه خائفاً وجلاً و هو يقول: سبحانك ربى، لو رآها بنو أدم لن يكفر أو يجحد بك أحد أبداً اتقاءً لها.. فأحاطها الله بكل الشهوات و الملذات و أمر "جبريل" بالعودة إليها، فلما رآها هكذا قال: سبحانك، إنهم جميعاً سيهلكون فيها أبداً. و عندما خلق الله الجنة طلب من "جبريل" الذهاب إليها ليرى ما أعده للمؤمنين، فعاد و هو يقول: سبحانك ربى، لو رآها بنو أدم لن يعصاك أحد منهم أبداً طمعاً فيها.. فأحاطها الله بكل المحرمات و المكاره و طلب من "جبريل" العودة إليها. فلما رآها قال:  سبحانك لن يدخلها أحد أبداً إلا من تشمله برحمتك. 
بات طوال الليل يحلم بالشيخ الوفى و زوجته "زينب" التى لم يرها.. ثم استيقظ على أذان الفجر ليجد الضباب كثيفاً يحيط به من كل جهة. صوت الأذان يأتيه خاشعاً شجياً كأن "بلال" نفسه هو الذى يؤذن محاولاً  تطهير العالم، صوته يخرق كل كيانه، يزلزل قلبه الميت ليبعث فيه حياة جديدة طاهرة. هب من نومه فى خفة و نشاط.. أصابته الدهشة من أين يأتى هذا الأذان فى هذه الصحراء الموحشة القاحلة.. هل وصل إلى ضفاف النيل دون أن يشعر؟! 
راح يحث الخطو فى الضباب الكثيف، الأرض تحت قدميه لم تعد رملية أو صخرية كما تعود، كأنها قطن أو مخمل ناعم.. رأى "رشا" بنظراتها الجوفاء الميتة كالتمثال الرومانى الرائع، لم يلتفت إليها.. رأى "سلمى" بابسامتها الصافية فلم يلتفت.. رأى صديقه "حسن"  بنظراته المرحة فلم يأبه به.. رأى الشيخ الوفى مبتسماً له فى هدوء و سكينة، اطمأن لرؤيته دون الالتفات إليه.. رأى الغجرية العارية تفتح له صدرها الناهد فى إغراء و هى تمد له يدها بالكأس فى دلال، أغمض عينيه و راح يحث الخطو فى اتجاه صوت الأذان. 
رأى مسجداً غارقاً فى الضباب. المسجد يشع نوراً و بهاءً، فر هارباً من ظلام الصحراء الموحش إلى النور الأليف.. النور يسطع فى المسجد دون لمبات.. فى المحراب يقف جده مبتسماً مرتدياً نفس الجلباب الأبيض الذى عاد به من رحلة الحج. عندما رآه جده أعلن بداية الصلاة ثم راح يصلى به الفجر، يتلو القرآن بصوت رخيم شجى، يركع فى خضوع و استسلام تام لإرادة الواحد القادر. أثناء السجود بكى "محمد" من أعماق قلبه. لا يريد الوقوف مرة أخرى. بعد انتهاء الصلاة استدار له جده، نظر "محمد" إليه متوسلاً إعادة الصلاة مرة أخرى، يريدها صلاة طويلة لا نهاية لها، عبادة أبدية إلى يوم القيامة، فأعاد به الصلاة و إن كانت لم تستمر طويلاً مثلما كان يتمنى أو يشتهى، لم يشعر بعد بالارتواء من الصلاة بعد طول  الجفاف. 
بعد الصلاة خرج من باب خلفى فى المسجد ليجد أشجاراً وارفة الظلال حتى أن ضوء الشمس لا يكاد يصل إلى الأرض إلا هادئاً لطيفاً، الأرض تكسوها الخضرة، نباتات مزهرة بكل الألوان، رائحة الياسمين تنبعث فى كل المكان فتفعل فى قلبه مفعول السحر.. تحت الأشجار الوارفة بيت رمادى اللون، تتسلق حوائطه النباتات الخضراء. دخل بخطوات واثقة، لا يعرف من أين أتته هذه الثقة؟ الضوء يشع مبهجاً فى المكان.. فى وسط الردهة تجلس "رشا" بكامل  جمالها و زينتها، شعرها الطويل يسترسل فى عذوبة حول وجهها كأنه تاج المُلك الذى يتوجها على عرش القلوب الحائرة الملهوفة، شفتاها مكتنزتان فى لون حبات الفراولة، وجنتاها فى لون التفاح، ترتدى نفس القميص الذى فى لون النبيذ فيكشف عن جزء من صدرها، سمع نبض قلبها دون أن يلمسها، شعرت بنظراته الحائرة الهائمة دون أن ينطق بكلمة كأنما هى الأخرى قد سمعت نبض قلبه، ابتسمت بعينيها الواسعتين، نظرات مفعمة بالمشاعر النبيلة مختلفة كل الاختلاف عن التمثال الرومانى... إنها "رشا" الحقيقة التى عشقها من صميم  قلبه حتى تغلغلت فى كل وجدانه و كيانه.. 

* تمت بحمد الله.
* الرواية مسجلة فى هيئة الكتاب تحت رقم 4920 / 2002.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق