الخميس، 17 نوفمبر 2016

زهرة الصحراء 6 ... بقلم / حسام ابو سعدة

زهرة الصحراء 6 ...
بقلم / حسام ابو سعدة
……………………

عندما خرج "محمد"  من الدار شعر بالخجل من نفسه، الشيخ الطاعن فى السن استيقظ منذ الفجر و راح يعمل فى الأرض بنشاط،  بينما هو لم يستيقظ إلا بعد أن نشرت الشمس أشعتها الدافئة فى كل مكان ليجد إفطاراً جاهزاً بجوار الفراش، تقدم محاولاً المساعدة، سعد الشيخ بهذه المبادرة فربت على كتفه قائلاً:  بارك الله فيك يا ولدى. طلب منه أن يملأ الدلو من عين الماء و يسقى الجزء الغربى، فالأشجار هناك كبيرة و لا تحتاج إلى مياه كثيرة.
عندما ذهب إلى عين الماء الوحيدة الموجودة هنا، وجدها صافية رائقة، ليست عميقة. جال ببصره، صحراء قاحلة مترامية الأطراف، سبح بحمد ربه الذى فجر هذه العين  هنا ليمتد العمر بهذا الرجل، شعر بكثير من الأمان عندما تذكر قصة عين زمزم التى انفجرت فى صحراء قاحلة ليحيا سيدنا "إسماعيل" فيصبح طائعاً طاعة عمياء لربه و لأبيه، رحمة الله واسعة، تشمل كل شىء و لابد أن تشملنى أنا أيضاً فى يوم من الأيام.
عندما ملأ الدلو و شعر بثقله تأكد من تفاهته مقارنة بهذا المُعمر العتيق الذى لا يكل و لا يتعب، ارتجفت كل عضلات ذراعيه و صدره بعد أن روى أربع شجيرات فقط، فابتسم الشيخ قائلاً:
ـــ الزراعة هى أفضل مهنة يعملها الإنسان.
تعلم من الشيخ أن أطهر أكل فى الدنيا هو ما يأكله الإنسان من عمل يديه. لقد خلق الله هذا الكون و خلق الإنسان ليعمره، من يعمر أكثر يكسب أكثر فى الدنيا و الآخرة، و من يخرب أكثر يخسر أكثر فى الدنيا و الآخرة. الزراعة هى العمار بعينه حتى أن رسول الله صلى الله عليه و سلم حثنا على زرع الفسيلة حتى أثناء الموت.  تعلم من الشيخ النشاط و الأمل فى رضا الله مهما كانت الذنوب.
اطمأن الشيخ أيضاً لوجود "محمد" معه، شعر بأن الله وهبه الابن أخيراً، إنه الوريث الشرعى لهذه الأرض و ما عليها، و من رحمة الله أنه لم يهبه هذا الوريث إلا بعد أن أصبح يملك هذه الأرض الطيبة المباركة، إنها أرض الوفاء و الإخلاص، أرض الرحمة و المحبة. علمه الشيخ طريقة حساب الزمن فى الصحراء، علمه كيف يحدد مواقيت الصلاة من خلال ظل العصا التى يغرسها فى مكان بعيد عن الأشجار.
بعد صلاة العصر استحم الشيخ من عرقه و جلس يقرأ القرآن، جلس "محمد" بجواره مرهقاً خائر القوى. كان الشيخ فى الجزء الأخير من سورة البقرة، حتى وصل إلى "لا يكلف الله نفسا إلا وسعها، لها ما كسبت، و عليها ما اكتسبت". انفجر فى البكاء قائلاً فى نفسه إلا أنا، يكلفنى مالا طاقة لى به. أغلق الشيخ المصحف قائلاً:
ـــ ألا تستطيع نسيان أحزانك بعد كل هذا المجهود؟
ـــ إن جذورها متوغلة العمق فى صدرى.
أدرك الشيخ بفطنة المؤمن ما يجيش فى صدره، أسند "محمد" رأسه إلى الحائط و هو يقول كمن يحدث نفسه:
ـــ كنت أعرفها جيداً، كانت أرق من النسيم، ألطف من الملائكة، و أجمل من كل الورود، كنت لا أفكر فيها لأننى أرى نفسى لا أستحق كل هذه الرقة و البراءة. كنت أحسد من سيرتبط بها و تشاركه حياته. لكننى فجأة فكرت فيها لنفسى، لما لا؟ لن تجد فى الدنيا إنسان يقدرها حق قدرها أكثر منى بالرغم من جمالها الباهر و قبح منظرى. قلت فى نفسى إن  "إزميرالدا"   فى رواية "نوتردام"  شعرت بالأحدب المجنون الجاهل بينما نفرت نفوراً شديداً من الراهب المثقف المتعجرف بسلطته و جاهه. حاولت الاقتراب منها و كلى أمل. إن رفضت هذا الحب فإنها سترفض بأسلوب مهذب راق يتناسب مع براءتها. لكننى فوجئت بها شيئاً آخر.  مجرد تمثال رومانى بديع الصنع رائع الحسن، لكنه فى النهاية مجرد حجر خال من أى روح.
قال الشيخ فى هدوء كأنه يعرف بقية الحكاية:
ـــ كان يجب أن تتركها لحال سبيلها. الحديث يقول: "الأرواح جنود مجندة، ما تشابه منها ائتلف و ما تنافر منها اختلف".
ـــ تركتها لحال سبيلها، لكنها لم تتركنى لحال سبيلى، كانت تتعمد العبث بكل مشاعرى لأظل أجرى خلفها، إذا اقتربت منها سنتيمتراً  واحداً ابتعدت عنى أميالاً، و إذا ابتعدت عنها تأتى إلى،  الغريب فى الأمر أنها ليست وحدها، بل هى و عائلتها على نفس الشاكلة.
ـــ إذن أنت عاشق المُحال.
ـــ كلا. كل ما فى الأمر إن بداية تفكيرى فيها تصادف مع ظهور أول ألحانى للنور، فتفاءلت خيراً، كما تصادف فى نفس الوقت أننى كنت ملتزماً فى أداء الصلاة، دعوت الله و استخرته، فهو أقرب إلى و إليها من حبل الوريد، و أنا لا أطلب حراماً. قلت فى نفسى أننى لا أتعامل إلا مع الله مباشرة، لو كان كل الناس فى الدنيا غدارين فمن المستحيل أن يغدر الله بالعبد الذى يلجأ إليه.
قال الشيخ مؤكداً:
ـــ هذا صحيح، لكن الله يمكر بعباده ليختبر إيمانهم و أخلاقياتهم.
أكمل "محمد" كأنه لم يسمع شيئاً:
ـــ فى ذات يوم رأيتها حزينة مهمومة نتيجة لخلافات بين أبيها و والدتها. كان والدها رجل شهوانى، على استعداد لفعل أى شىء مهما كان حقيراً فى سبيل إشباع شهواته، لا يهمه أبداً ما سيحدث بعد ذلك، حتى لو كانت زوجته المخلصة هى التى ستدفع الثمن، حتى لو كانت ابنته ستنهار بسبب نزواته، يرى أن الرجل القوى هو الذى يشبع غرائزه. أردت فى هذه اللحظة الذهاب إليها و مداعبتها لأخفف عنها. بدأت فى هذه الأيام أحاصرها من كل ناحية. كنت أريد أن أشعرها بأننى سأظل بجانبها إلى الأبد مهما حدث، كنت أريد خطفها من هذا الجو الخانق المشحون بالتوتر، براءتها و رقتها لا تحتمل كل هذا الألم. أعلنت أمام الجميع أننى لا أريد أحداً غيرها، فإذا بها تعلن أمام الجميع دون أن تسمع منى كلمة واحدة بأننى لست الإنسان الذى فى خيالها.. كيف طاوعها قلبها على النطق بهذه لكلمات و هى تعلم أننى لا أبغى سوى التعبد فى محراب حبها أو الفناء فى أحضانها؟!
ـــ لا تحبك.
ـــ الأغرب، أننى ابتعدت عنها تماماً بعد قولها هذه الكلمة، فإذا بها تحاول الاقتراب منى كأن شيئاً لم يحدث.
ـــ من لا يعرف تأثير الكلمة لا يستحق أن يُسمى إنساناً، لقد خلق الله الكون كله بكلمة واحدة.
ثار "محمد" مدافعاً:
ـــ بل إننى واثق من رقتها و براءتها. المشكلة تكمن فى والدها، كان ممن يطلقون عليهم تاجر حقيبة، يشترى أرخص البضائع من شوارع أوروبا، يتذلل لموظف الجمرك، لا مانع عنده من تقبيل يد و قدم فراش وضيع فى الجمرك حتى يشعره بأن بيته سيُخرب بدون هذه البضائع، و ما أن يخرج من البوابة حتى يتحول إلى إنسان آخر، يبيع بضاعته لأشخاص  مرموقين بعد إقناعهم بأنه لا يبيع لهم إلا أفخم الأنواع و أرقى الماركات العالمية. كان نموذجاً مثالياً للتاجر الحديث، يرى أن التاجر الذى يعطى للناس حقوقهم ما هو إلا تاجر غبى، التاجر الذكى يأكل حقوق الناس بالباطل ثم يتهم من سرقهم بالسرقة ظلماً و عدواناً. الغريب أنه لا يدارى ذلك، بل يفتخر بأنه بهلواناً يجيد اللعب على كل الحبال، حتى أصبح كل الناس يعرفون أنه عندما يقول لأحد: أنا أحبك، فهذا يعنى أنه يدبر له مكيدة ستقضى عليه. حاولت كثيراً انقاذ ابنته البريئة منه، لكنها للأسف كانت مطيعه لوالدها طاعة عمياء حتى تحولت إلى كتلة متحركة من المكر و الخبث، بينما تعلمت أنا من والدتى أن الإنسان الذى لا يجد عنده شيئاً يمنحه للناس لا يستحق الحياة.
قال الشيخ و قد شعر بعاطفة الأبوة:
ـــ الحديث يقول "اختاروا لأنسابكم فإن العرق دساس"، تقول أن أباها يستحل لنفسه سرقة عملائه، مهما أحسن تربيتها فلقد رباها بأموال حرام. إنها بذرة خبيثة تنبت فى أرض خبيثه ثم ارتوت بمياه عكرة، كيف تتوققع جنى الورود؟
قال "محمد" فى صبر نافد:
ـــ قلت لك أننى لا أتعامل مع الناس، إننى أتعامل مع الله، لماذا يسلطها الله على بعد أن لجأت له، والله يعلم أن نقطة ضعفى الوحيدة هى نبض قلبى؟
ـــ لأنك عبدتها.
برقت عينا "محمد" فزعاً:
ـــ أنا لم أسجد إلا لله.
قال الشيخ فى هدوء:
ـــ ألم تلاحظ أنك لم تذكر لى اسمها حتى الآن؟  إنك تقدسها.
قال "محمد" مرتجفاً:
ـــ "رشا".
قال الشيخ فى غضب:
ـــ إنك ترتجف لذكر اسمها مثلما يرتجف العبد المؤمن لذكر الله.
تكوم "محمد" بجوار الحائط مرتعداً من تهمة الشرك بالله، فقال الشيخ مبتسماً:
ـــ اقرأ القرآن يا ولدى، صلى و استغفر ربك و ارضَ بما قسمه لك.
هم "محمد" بالحديث فأشار إليه الشيخ بالصمت و هو يقول:
ـــ لا تقل شيئاً: إن الله حليم ستار، أعرف ما حدث بعد ذلك من نزوات و طيش و جنون، التمرد على إرادة الله واضح فى نظرات عينيك الزائغة.
تعلم "محمد" من الشيخ قراءة القرآن و المواظبة على الصلاة، تعلم منه التسابيح  و الإيمان بالقدر، تعلم أن مكر الله ليس له غالب. فى مرافقة هذا الشيخ فى قلب هذه الصحراء اعتاد الحياة بلا قهوة، بلا  سجائر، بلا خمور التى كان يراها اكتشافاً سحرياً لا غنى عنه لمواجهة الأحزان، أدرك أنها لم تكن مواجهة أبداً، بل هروب إلى عالم الذنوب و الآثام. اندهش عندما رأى روحه تهدأ بلا خمور، و قدرته على التركيز تزداد بلا سجائر أو قهوة.
و فى ذات يوم استيقظ فى لحظة الفجر، جلس وحده فى البهو منتظراً خروج الشيخ كما تعود، لكن الشيخ تأخر، راح يرقب باب حجرته فى خوف، لقد أكد عليه ألا يقرب هاتين الحجرتين. طال انتظاره، نفذ صبره، فتح باب حجرة الشيخ بيد مرتجفة. الأرض من التراب، بها فوهة صغيرة يتدلى بداخلها سلم خشبى، نظر داخل الحفرة ليجد الشيخ مسجياً ميتاً.. صلى عليه ثم دفنه بينما الهلع ينهش قلبه. دفعه الفضول لكشف ستر الحجرة المجاورة، فوجد بها قبر زوجته الوفية "زينب".

* الفصل السابع، الخميس القادم، إن شاء الله.
حسام أبو سعدة.
hossamaboseda@gmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق